الخطابي.. أمير ثائر ودولة ناشئة
(في ذكرى معركة أنوال: 25 شوال 1339هـ)
محمد بن عبد الكريم الخطابي في شبابه
كان المغرب في بداية القرن العشرين يعاني من ضعف وانقسام شديد، تمثل في انقسام الأسرة الحاكمة وصراعاتها الداخلية، واستعانة أطراف هذا الصراع للبقاء على العرش بالقوى الخارجية، أما الوجه الآخر فتمثل في التنافس الاستعماري الشرس بين الدول الكبرى للسيطرة على المغرب وتأمين نفوذها ومصالحها فيه، وبخاصة فرنسا التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض على المغرب، غير أنها وجدت إنجلترا وألمانيا واقفتين لها بالمرصاد؛ فلجأت إلى إرضاء إنجلترا من خلال الاتفاق الودي سنة (1322هـ = 1904م) الذي أطلق يدها في المغرب، أما ألمانيا فاضطرت إلى إعطائها جزءًا من الكاميرون حتى تقر باحتلال فرنسا لمراكش في (13 من ذي القعدة 1329هـ = 4 نوفمبر 1911م).
لم يكن دخول فرنسا مدينة "فاس"، أو إعلان الحماية عليها بالأمر الهين اليسير؛ نظرا لطبيعة البلاد الجبلية ذات المسالك الوعرة، وطبيعة السكان البربر الذين اعتادوا الاحتفاظ باستقلالهم الداخلي أمام جميع الحكومات المركزية، ومن ثَمَّ لم يتم إخضاع البلاد إلا بعد مرور أكثر من عشرين عاما لعبت فيها شخصية الأمير الخطابي دورا رئيسيا في الجهاد والمقاومة، ووصف أحد الضباط الفرنسيين الكبار هذه المقاومة الباسلة بقوله: "لم تستسلم أية قبيلة دون مقاومة؛ بل إن بعضها لم يُلقِ سلاحه حتى استنفد كل وسائل المقاومة، واتسمت كل مرحلة من مراحل تقدمنا بالقتال، وكلما توقفنا أنشأ المراكشيون جبهة جديدة أرغمت قواتنا سنوات طويلة على الوقوف موقف الحذر واليقظة في موقف عسكري مشين".
وفرض الفرنسيون الحماية على المغرب في (12 ربيع الثاني 1330هـ = 30 مارس 1912م) وبعد أيام قام المغاربة بثورة عارمة في فاس ثار فيها الجيش والشعب، تزعمها المجاهد "أحمد هبة الله"، وكانت الانتصارات فيها سجالا بين الفريقين، وانتهى الأمر بوفاة الرجل، وتمكن الفرنسيون من بسط نفوذهم على المغرب أثناء الحرب العالمية الأولى.
الريف والأسبان
كانت منطقة النفوذ الأسباني حسب اتفاقية (1322هـ = 1904م) مع فرنسا تشمل القسم الشمالي من مراكش، التي تنقسم إلى كتلتين: شرقية وتعرف بالريف، وغربية وتعرف بالجبالة، وتكاد بعض جبال الريف تتصل بمنقطة الساحل. وتتميز مناطقها الجبلية بوعورة المسالك وشدة انحدارها، غير أنها أقل خصبا من منطقة الجبالة. وتمتد بلاد الريف بمحاذاة الساحل مسافة 120ميلا وعرض 25 ميلا، وتسكنها قبائل ينتمي معظمها إلى أصل بربري، أهمها قبيلة بني ورياغل التي ينتمي إليها الأمير الخطابي.
وعندما بدأ الأسبان ينفذون سياسة توسعية في مراكش، صادفوا معارضة قوية داخل أسبانيا نفسها بسبب الهزائم التي تعرضوا لها على يد الأمريكيين في الفليبين وكوبا، فعارض الرأي العام الأسباني المغامرات العسكرية الاستعمارية، إلا أن المؤيدين احتجوا بأن احتلال مراكش ضروري لتأمين الموانئ الأسبانية الجنوبية، وضَمَّ رجال الدين صوتهم إلى العسكريين.
وكان الأسبان يعرفون شدة مقاومة أهل الريف لتوسعهم، فاكتفوا في البداية بالسيطرة على سبتة ومليلة، ثم اتجهوا بعد ذلك إلى احتلال معظم الموانئ الساحلية المحيطة بمنطقة نفوذهم، وكانت خطتهم تقوم على أن تتقدم القوات الأسبانية عبر منطقة الجبالة لاحتلال مدينة تطوان، التي اتُّفق على أن تكون عاصمة للمنطقة الأسبانية، لكن ظهر في الجبالة زعيم قوي هو "أحمد بن محمد الريسوني" الذي حمل لواء المقاومة منذ سنة (1330هـ = 1911م) حتى تولاها منه الأمير الخطابي.
وقد اصطدم الريسوني بالأسبان عندما احتلوا ميناء أصيلة الذي كان يعتمد عليه في استيراد الأسلحة، وبعدها ساروا إلى احتلال مدينة تطوان، فوقعت مصادمات بينهم انتهت بصلح اتفق فيه على أن تكون الجبال والمناطق الداخلية للريسوني، والساحل للأسبان، غير أن الأسبان نقضوا العهد، وطاردوه، وتوغلوا في بلاد الجبالة بخسائر فادحة، واستطاعوا أن يحتلوا مدينة شفشاون أهم مدينة في تلك البلاد في (صفر 1339هـ = أكتوبر 1920م).
الأمير الخطابي
منظر من مدينة مليلة
كانت الثورة الثانية ضد الأسبان هي ثورة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، زعيم قبيلة بني ورياغل، أكبر قبائل البربر في بلاد الريف، وقد وُلد الأمير سنة (1299هـ = 1881م) في بلدة أغادير، لأب يتولى زعامة قبيلته، فحفظ القرآن الكريم صغيرا، ثم أرسله أبوه إلى جامع القرويين بمدينة فاس لدراسة العلوم العربية الدينية، ثم التحق بجامعة سلمنكا بأسبانيا، فحصل منها على درجة الدكتوراه في الحقوق، وبذلك جمع بين الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة وبعض النواحي من الثقافة الأوروبية، ثم عُين قاضيا بمدينة مليلة التي كانت خاضعة لأسبانيا، وأثر فيه عندما كان قاضيا مشهد ضابط أسباني يضرب عربيا بالسوط في شوارع مليلة، ويستغيث ولا يغاث، عندها رأى الوجه القبيح للاستعمار، وأدرك أن الكرامة والحرية أثمن من الحياة.
وكان الأسبان قد عرضوا على والد الأمير أن يتولى منصب نائب السلطان في تطوان التي تحت الحماية الأسبانية، وأن يقتصر الوجود العسكري الأسباني على المدن، إلا أنه اشترط أن تكون مدة الحماية محددة فلم ينفذ هذا العرض.
وبعد سيطرة أسبانيا على مدينة شفشاون وإخضاع منطقة الجبال، استطاعت أن تركز جهودها وقواتها في بلاد الريف، وأعلنت الحماية على شمال المغرب، فرفض الأب الخضوع للأسبان، وأعلن معارضته للاستعمار، ورفض تقديم الولاء للجنرال الأسباني غوردانا؛ فما كان من الجنرال إلا أن عزل الخطابي عن قضاء مليلة، واعتقله قرابة العام، ثم أطلق سراحه، ووضعه تحت المراقبة، وفشلت إحدى محاولات الخطابي في الهرب من سجنه، فأصيب بعرج خفيف لازمه طوال حياته، ثم غادر مليلة ولحق بوالده في أغادير، وفي هذه الأثناء توفي والده سنة (1339هـ = 1920م) فانتقلت الزعامة إلى الابن.
من القضاء إلى الثورة
تولى الأمير الخطابي زعامة قبيلة بني ورياغل، وقيادة الثورة في بلاد الريف، وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، فزحف الجنرال سلفستر قائد قطاع مليلة نحو بلاد الريف، واحتل بعض المناطق دون مقاومة تُذكر، واحتل مدينة أنوال، وتقدم اثني عشر ميلا بعدها؛ فظن أن قبائل بني ورياغل خضعت له، ولم يدرِ أن الأمير الثائر أراد أن يستدرجه إلى المناطق الجبلية ليقضي عليه تماما، وأنه ادخر رجاله لمعركة فاصلة
بلغ قوام الجيش الأسباني بقيادة سلفستر 24 ألف جندي استطاع أن يصل بهم إلى جبل وعران قرب أغادير مسقط رأس الأمير، وعندها قام الخطابي بهجوم معاكس في (25 شوال 1339هـ = 1 يوليو 1921م) استطاع خلاله أن يخرج الأسبان من أنوال، وأن يطاردهم حتى لم يبق لهم سوى مدينة مليلة، وكانت خطة هجومه في أنوال أن يهاجم الريفيون الأسبان في وقت واحد في جميع المواقع؛ بحيث يصعب عليهم إغاثة بعضهم البعض، كما وزع عددا كبيرا من رجاله في أماكن يمكنهم من خلالها اصطياد الجنود الفارين، فأبيد معظم الجيش الأسباني بما فيهم سلفستر، واعترف الأسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرا، واستولى المغاربة على 130 موقعا من المواقع التي احتلها الأسبان، وحوالي 30 ألف بندقية، و129 مدفعَ ميدان، و392 مدفعا رشاشا.
ولم ينتبه الخطابي إلى ما أدركه من نصر حاسم؛ إذ لو تابع القتال لما وجد أمامه قوة ولدخل حصن مليلة دون مقاومة تُذكر، ولأنهى الوجود الأسباني في بلاد الريف، غير أنه توقف ظنا منه أن للأسبان قوة، وقد هيأ التوقف للأسبان الفرصة لحشد ستين ألف مقاتل، وقاموا بهجوم معاكس في (10محرم 1340هـ = 12 سبتمبر 1921م)، فاستعادوا بعض ما فقدوه، وبلغ مجموع القوات الأسبانية في ذلك العام ببلاد الريف أكثر من 150 ألف مقاتل، ورغم ذلك أصبح وجود الأسبان مقصورًا على مدينة تطوان والموانئ وبعض الحصون في الجبالة.
ويعزو الأسبان وقوع هذه الهزيمة إلى طبيعة البلاد الصعبة، والفساد الذي كان منتشرا في صفوف جيشهم وإدارتهم، وأرسلت حكومة مدريد لجنة للتحقيق في أسباب هذه الكارثة المدوية، ذكرت أن الأسباب تكمن في إقامة مراكز عديدة دون الاهتمام بتحصينها تحصينا قويًّا، كما أن تعبيد الطرق التي تربط بين هذه المراكز كان خطأ كبيرًا من الناحية العسكرية، ويعترف التقرير بأنه لم يكن أمام المراكشيين إلا أن يلتقطوا الأسلحة التي تركها الجنود الفارون، وكشف التقرير حالات بيع بعض الضباط لأسلحة الجيش.
من الثورة إلى الدولة
بعد الانتصار العظيم الذي حققه الخطابي في أنوال ذاعت شهرته في بلاد الريف، وترسخت زعامته فاتجه إلى تأسيس دولة؛ لذلك دعا القبائل إلى عقد مؤتمر شعبي كبير تُمثَّل فيه جميع القبائل لتأسيس نظام سياسي، ووضْعِ دستور تسير عيه الحكومة، وتم تشكيل مجلس عام عُرف باسم الجمعية الوطنية مُثِّلت فيه إرادة الشعب، واتخذ أول قرار له وهو إعلان الاستقلال الوطني وتأسيس حكومة دستورية جمهورية في (المحرم 1340هـ = سبتمبر 1921م)، وتم وضع دستور لجمهورية الريف مبدؤه سلطة الشعب، ونص الدستور على تشكيل وزارات، ونص على أن رجال الحكومة مسئولون أمام رئيس الجمهورية.
وقد أعلن الخطابي أن أهداف حكومته هي عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية، وجلاء الأسبان عن جميع ما احتلوه، وإقامة علاقات طيبة مع جميع الدول، والاستفادة من الفنيين الأوروبيين في بناء الدولة، واستغلال ثرواتها؛ فشجع بعض شركات التعدين للعمل في الريف حتى قيل بأن تأييد بعض الأوساط الرأسمالية له في أوروبا إنما كان سببه ارتباط مصالحهم بمشاريع في الريف، كذلك تحول رجاله المقاتلون إلى جيش نظامي، له قواده ومقاتلوه من الفرسان والمشاة المدفعية، وعهد بالوظائف الفنية إلى المغاربة الذين سبق لهم الخدمة في الجيش الفرنسي، وعمل على تنظيم الإدارة المدنية، والإفادة من بعض وسائل الحضارة العصرية؛ فمدّ أسلاك البرق والهاتف وشق الطرق، وأرسل الوفود إلى العواصم العربية ليحصل على تأييدها، وطلب من فرنسا وبريطانيا وبابا الفاتيكان الاعتراف بدولته، وعاصمتهاأجدير (أغادير).
مسألة سياسة
وأثار وضع جمهورية الريف مسألة سياسية هامة أثرت في حياة مراكش، وهو موقف الخطابي من العرش والسلطان المغربي، فنسب البعض إليه أنه اعترف بمبدأ السيادة السلطانية، واستدلوا على ذلك بأنه لم يعلن نفسه سلطانا، غير أن السلاطين من الأسرة العلوية لم يقتنعوا بذلك، واعتقدوا أن دولته تمثل انشقاقا على العرش، واستمر سوء التفاهم هذا بينهم وبين الخطابي حتى عهد السلطان محمد الخامس، ونفى الخطابي أن يكون تطلع إلى عرش مراكش بدليل أنه منع أنصاره من الخطبة باسمه في صلاة الجمعة، وأنه كان مستعدا لقبول الأسرة الملكية الحاكمة، وأن يبايع الوطنيون السلطان الذي يحقق أهدافهم بعد تحرير البلاد.
الأوضاع الداخلية في أسبانيا
أصبحت مشكلة الريف والخطابي هي المشكلة الأولى التي تقلق أسبانيا داخليا وخارجيا، فارتفعت القوات الأسبانية في شمال المغرب بعد شهور من هزيمة أنوال إلى 150 ألف مقاتل، وعرضت مدريد على الخطابي الاعتراف باستقلال الريف بشرط أن يكون استقلالا ذاتيا خاضعا للاتفاقات الدولية التي أخضعت المغرب للنظام الاستعماري، فرفض الأمير الاستقلال تحت السيادة الأسبانية.
وداخليا وقع انقلاب عسكري في أسبانيا في (1 صفر 1342هـ = 12 سبتمبر 1923م) وتسلم الحكم فيه الجنرال بريمودي ريفيرا، فأعلن عن سياسة جديدة لبلاده في مراكش، وهي الانسحاب من المناطق الداخلية والتمركز في مواقع حصينة على الساحل، وأدرك ريفيرا أن تعدد المواقع الأسبانية المنعزلة أمر بالغ الخطورة؛ لأنها محاطة بالقبائل المغربية. أما الخطابي فلم يكن هناك ما يدفعه إلى مهادنة الأسبان، خاصة بعد وثوقه بقدرته على طردهم، وبعد رفضهم الانسحاب إلى سبتة ومليلة؛ لذلك بدأ في عمليات قتالية باسلة ضد القوات المنسحبة اعتمدت على أساليب حرب العصابات، واعترفت الحكومة الأسبانية في تعدادها الرسمي أن خسائرها في الستة أشهر الأولى من عام (1343هـ = 1924م) بلغت 21250 قتيلا وجريحًا وأسيرًا رغم إشراف الجنرال ريفيرا بنفسه على عمليات الانسحاب.
واستطاع الخطابي أن يبسط نفوذه على الريف، رغم استمالة مدريد لزعيم منطقة الجبالا الريسوني، فزحف على الجبالا، ودخل عاصمتهم سنة (1344هـ = 1925م) وصادر أملاك المتعاونين مع الأسبان، وألقى القبض على الريسوني، واقتاده سجينا إلى أغادين حيث توفي في سجنه، فأصبح زعيم الريف بلا منازع، وسيطر على مساحة تبلغ 28 ألف كيلومتر مربع، ويسكنها مليون مغربي.
فرنسا.. والريف
وأدرك الأسبان عجزهم الكامل عن مقاومة دولة الريف الناشئة، وقوبلت هذه النتيجة بدهشة كبيرة من الدوائر الاستعمارية التي لم تكن مطمئنة لحركة الخطابي وعلى رأسها فرنسا التي كانت تتوقع أن يتمكن الأسبان يوما ما من القضاء على هذه الحركة، أما الخطابي فكان يحرض على تجنب الاصطدام بالفرنسيين حتى لا يفتح على نفسه جبهتين للقتال في وقت واحد، إلا أن الأوضاع بين الاثنين كانت تنذر بوقوع اشتباكات قريبة.
والمعروف أن فرنسا كانت تخشى من حركة الخطابي أن تكون عاملا مشجعا للثورات في شمال أفريقية، ويرى البعض أن مصالح الرأسمالية التي استثمرت أموالها في بناء ميناء الدار البيضاء الضخم وفي مشروعات أخرى في منطقة ساحل الأطلسي استحسنت بقاء منطقة الريف مضطربة حتى يصعب استخدام الطريق الموصل بين فاس وطنجة، الذي يحول تجارة مراكش إلى ذلك الميناء، واستقرار الأوضاع في الريف سيؤثر سلبا على مصالحها، يضاف إلى ذلك أن الخطابي حرص على دعوة الشركات الأجنبية لاستغلال موارد الريف الطبيعية خاصة البريطانية؛ وهو ما يعني أن تقترب المصالح الرأسمالية البريطانية من المصالح الفرنسية، وتصبح دولة الريف في حالة من الأمان الدولي في ظل التنافس بين هذه المصالح؛ لذلك يقال: إن بعض الأسلحة البريطانية المتطورة في ذلك الوقت بدأت تتدفق على دولة الريف عبر ميناء الحسيمات.
كما أن قيام جمهورية قوية في الريف يدفع المغاربة دفعا إلى الثورة على الفرنسيين، ورفض الحماية الفرنسية؛ لذلك كرهت فرنسا قيام دولة المغاربة مستقلة، وأرسلت تعزيزات عسكرية على الجبهة الشمالية لها في مراكش، وتحينت الفرصة للاصطدام بها والقتال معها، وفشلت محاولات الخطابي للتفاهم مع الفرنسيين للتوصل إلى اتفاق ينظم العلاقة بينهما، فبعث أخاه إلى باريس، وبعث موفدا له إلى السلطات الفرنسية في فاس، لكنهما لم يتوصلا إلى شيء.
الصدام
كان مجموع القوات الفرنسية في مراكش 65 ألف جندي، وكانت فرنسا ترى أن هذه القوات غير كافية لدخول حرب في الريف؛ لذلك أرسلت قوات إضافية أخرى حتى بلغ مجموع هذه القوات 158 ألف مقاتل منهم 133 ألف مغربي، وفي (رمضان 1343هـ = أبريل 1925م) وقعت شرارة الصدام بين الفرنسيين والخطابي، عندما أمدّ الفرنسيون زعماء الطرق الصوفية بالمال والسلاح ليشجعوهم على إثارة الاضطرابات في دولة الريف، فأدى ذلك إلى مهاجمة الريفيين لبعض الزوايا قرب الحدود، ووجد الفرنسيون في ذلك حجة للتدخل لحماية أنصارهم، وعندما بدأ القتال فوجئ الفرنسيون بقوة الريفيين وحسن تنظيمهم وقدراتهم القتالية، فاضطروا إلى التزام موقف الدفاع مدة أربعة أشهر، واستطاعت بعض قوات الريف التسلل إلى مسافة 20 ميلا بالقرب من فاس، وخسر الفرنسيون خسائر فادحة، ووقعت كثير من أسلحتهم في أيدي الريفيين، فقلقت فرنسا من هذه الانتصارات، وأرسلت قائدها العسكري البارع "بيتان" للاستعانة بخبرته وكفاءته.
أسبانيا وفرنسا ضد الريف
كان صمود جمهورية الريف الناشئة أمام فرنسا وأسبانيا والمناوئين لها من المغاربة أمرًا باهرًا رائعا وحالة نادرة في تاريخ الحروب الاستعمارية، يرجع جوهره إلى كفاءة الزعماء الريفيين في ميدان القتال والحرب؛ فقد استخدم هؤلاء المقاتلون خطوط الخنادق المحصنة على النمط الذي أقامته فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، ويكفي الريفيين فخرًا أنهم قادوا الحرب ضد ثلاثة ماريشالات وأربعين جنرالا وحوالي ربع مليون مقاتل فرنسي وأسباني ومغاربي مدعمين بالطائرات والمدرعات وتحت إشراف رؤساء حكوماتهم.
وقد اتخذت فرنسا بعض الإجراءات لتدعيم موقفها في القتال، فأغرت السلطان المغربي بأن يعلن الخطابي أحدَ العصاة الخارجين على سلطته الشرعية، ففعل السلطان ما أُمر به، وقام برحلة إلى فاس لتأليب القبائل على المجاهدين، كذلك نسقت خططها الحربية مع حكومة مدريد، وعقد مؤتمر لهذا الغرض اتفق فيه على مكافحة تجارة السلاح بين الريف وأوروبا، وسمع بتتبع الثائرين في مناطق كل دولة، وتعهدت باريس ومدريد بعدم توقيع صلح منفرد مع الخطابي.
الاستسلام
واتفق الأسبان والفرنسيون على الزحف على جمهورية الريف بهدف تحقيق اتصال عسكري بين الدولتين وخرق الريف، وتقسيم قواته إلى جزأين؛ وهو ما يعرضهم لموقف عسكري بالغ الحرج، إلا أن قدوم الشتاء ببرودته أجَّل هذا الزحف وبعض العمليات العسكرية، وخسر الخطابي في تلك المعارك حوالي 20 ألف شهيد، وبقي بجانبه حوالي 60 ألف مقاتل. اتسعت الحرب في (1344هـ = 1926م) وتجدد الزحف والتعاون العسكري التام بين باريس ومدريد مع تطويق السواحل بأساطيلهما، وقلة المؤن في الريف؛ لأن معظم المقاتلين في صفوف الخطابي من المزارعين، وهؤلاء لم يعملوا في أراضيهم منذ أكثر من عام، وهم يقاتلون في جبهة تمتد إلى أكثر من 300 كم.
ولجأ الفرنسيون إلى دفع المغاربة المتعاونين معهم إلى توجيه دعوة للقبائل لعقد صلح منفرد مع فرنسا أو أسبانيا في مقابل الحصول على حاجاتهم من الطعام، فوجد الخطابي أن الحكمة تقتضي وقف القتال رحمة بسكان الريف وقبائله قبل أن تلتهمهم الحرب، وقبلها الجشع الفرنسي والأسباني والخائنون من المغاربة.
وقد فكر الرجل أن يخوض بنفسه معارك فدائية؛ دفاعا عن أرضه ودينه، إلا أن رفاقه منعوه ونصحوه بالتفاوض، فقرر أن يحصل لبلاده ونفسه على أفضل الشروط، وألا يكون استسلامه ركوعا أو ذلا، ورأى تسليم نفسه للفرنسيين على أنه أسير حرب، واقتحم بجواده الخطوط الفرنسية في مشهد رائع قلّ نظيره في (12 ذي القعدة 1344هـ = 25 مايو 1926م) واستمر القتال بعد فترة. أما هو فنفته فرنسا إلى جزيرة ريونيون النائية في المحيط الهادي على بعد 13 ألف كيلو متر من موطنه الذي شهد مولده وجهاده.
وطال ليل الأسر والنفي بالخطابي وأسرته وبعض أتباعه نيفا وعشرين سنة، قضاها في الصلاة وقراءة القرآن الكريم في تلك الجزيرة الصخرية، عانى فيها قلة المال، فآثر أن يعمل بيديه لتأمين معيشته هو وأسرته، فاشترى مزرعة، وجاهد فيها كسبا للعيش، ولم تفلح محاولاته بأن يرحل إلى أية دولة عربية أو إسلامية؛ لأن فرنسا كانت تعلم أن الرجل يحمل شعلة الحرية في قلبه وهي لم تنطفئ، كما أن كلماته عن تقرير المصير هي عبارات محشوة بالديناميت تفجر الثورات وقبلها نفوس الأحرار.
وفي عام (1367هـ = 1947م) قررت فرنسا نقل الخطابي وأسرته إليها لتضغط به على الملك محمد الخامس لمطالبته الدائمة بالاستقلال، غير أنها استجارت من الرمضاء بالنار، فعندما وصلت الباخرة التي تقله إلى ميناء بورسعيد، التجأ إلى السلطات المصرية، فرحبت القاهرة ببقاء هذا الزعيم الكبير في أراضيها، واستمر بها حتى وفاته في (1382هـ = 1963م).