صدق أو لا تصدق: الشاهد الأساسي في قضية اغتيال رفيق الحريري، الذي شغل الدنيا ووكالات الأنباء ومؤسسات الإعلام في العالم، لا علم له، ولا يحفظ على هاتفه ولا يدوّن في أجندته، ولا في أوراقه الخاصة أو العامة، ولا بين آلاف الوثائق التي يقول: إنها في حوزته، إلا رقم هاتف جريدة السياسة الكويتية؟!
وانطلاقاً من هذه الظاهرة الخارقة، التي تنسف فكرة انتهاء عصر المعجزات، اتصل المدعو محمد زهير الصديق بالسياسة الكويتية ليخبرها بأنه يقيم في مخبأ سري على مقربة من الأراضي الفرنسية والمحكمة الدولية، مشيراً إلى أن (الشائعات) التي تحدثت عن اختفائه هي عبارة عن تكهنات وتحليلات صحفية موجهة ومغرضة ومدسوسة.
وحيث إن القائمين على شؤون هذه الجريدة مشغولون بمعجزاتهم، وجب علينا نحن أن نفهم وأن نقدّر أن اهتماماتهم أكبر وأهم من أن يسألوا صديقهم، عما إذا كان حديثه عن الكاذبين والمدسوسين، يشمل وزير خارجية فرنسا برنار كوشنير، على اعتبار أنه هو من تحدث عن اختفائه، في تصريحات تترك المستمع فريسة احتمال من ثلاثة:
فإما أن التسيب والفوضى واللامبالاة في فرنسا تفوق كل خيال، أو أن الوصول إلى معرفة من قتل الحريري هو آخر هموم المسؤولين الفرنسيين، أو أن الحال وصل بوطن الحرية والعدل والمساواة وعاصمة أوروبا الثقافية، إلى حد الرضا والقناعة من النظام العالمي الجديد بدور المهرج الصغير في مسرحية شديدة السماجة، تمثل امتهاناً لذكائنا وانتهاكاً صارخاً لقدراتنا العقلية.
والمدهش أن ذلك كان يحدث في وقت يحاول فيه فريق السلطة في لبنان التعمية على فضيحة اختفاء الصديق، ويسخّرون إعلامهم لاختراع مبررات تخرج فرنسا من حرج لم يظهر أصلاً عليها أي من أعراضه.
وبعيدا عن كل هذا التهريج الرخيص، علينا أن نتذكر جيداً مئات التصريحات والمقابلات والأخبار والتحقيقات الصحفية التي أكدت مرارا وتكراراً أن فرنسا رفضت تلبية كل الطلبات الرسمية اللبنانية بتسليم الشاهد محمد زهير الصديق، بحجة أن باريس هي الأكثر حرصا عليه والأقدر على حمايته، وكيف أن السلطات الأمنية الفرنسية كانت توفر للصديق حماية مشددة على مدار ساعات اليوم، بلغت حد تقدم سكان الحي الذي كان يقيم فيه بالعديد من الشكاوى جراء معاناتهم في الدخول والخروج إلى ومن منازلهم. وعلينا أن نتذكر تماما أن مقابلة الرئيس الفرنسي أو رئيس الوزراء كانت أسهل ألف مرة من مقابلة الصديق. ألا يصبح من السخف (إن لم يكن من العار)، بعد كل ذلك، أن نصدق إنكار فرنسا معرفتها أي معلومات عن كيفية اختفاء الصديق أو مكانه الحالي أو ما إذا كانت هناك من أخطار تتهدده.
بيد أن هذا السخف يجب ألا ينسينا ما قاله القاضي الكندي دانيال بيلمار في تقريره، وبالتحديد في البند 25: إن (اللجنة يمكنها القطع الآن على ضوء الأدلة المتوافرة أن الاغتيال كان بفعل شبكة إجرامية مكونة من أفراد). وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلى التوقف مليا أمام (مصادفة) اختفاء الصديق مع توقيت صدور تقرير القاضي بيلمار، لنتساءل عما إذا كان الصديق بات يمثل خطراً حقيقيا على المشروع السياسي الذي أراد البعض توظيف التحقيق والمحكمة فيه؟ لنقف على حقيقة أنه خطر أجبر صانعي هذا الشاهد وملقنيه ومدربيه، على أن يحولوا وبأي ثمن دون وصوله إلى قاعة المحاكمة، وحتى نتبين بعضا من ملامح هذا الخطر، علينا أن ننتبه إلى أنه على الأغلب أشد فتكا من أي نتائج سلبية يمكن أن تترتب على سمعة فرنسا ومسؤوليها لو تبخر منها الصديق وبدا مسؤولوها مثل (الأطرش في الزفة)، وأنه خطر أعظم مما يمكن أن تصبح عليه (ثورة الأرز) ورموزها وشعاراتها، لو بقي الصديق في مشهد القضية، بل يبدو أن ذلك الخطر كان ملحا، بحيث لم يترك للمرعوبين منه فرصة لفبركة ما، لاتهام سورية أو المعارضة اللبنانية، بالوقوف خلف اختفائه.
فالواضح أن قرار إخفاء الصديق، اتخذ على عجل، وكان واجب التنفيذ بالسرعة القصوى، وفي هذا مؤشر على أن أحداثا وقرارات أخرى في الطريق، سوف تتسم بذات السرعة، والاضطراب، ما يدعو إلى المجازفة بالقول: إن تحولات ما، ستحدث، وإن المتربصين بسورية مقبلون على فصل فضائحي لم يتصوروه حتى في كوابيسهم.